تابع تأملات في آثار هذا الحج المبرور

أيها الحجاج والعمار

إن الإسلام أقام العلاقة بين الناس على أساس من السلام النفسي والحق والعدل والتعاون على البر والتقوى , وأعطى من التوجيهات ما يدعم هذا ويقويه .
ولكن بعض الناس قد يتجاوزون فيما يصدر منهم من كلمات , أو أفعال ما يخالف هذه التوجهيات , فقد يتكلمون بكلام مثير لغيرهم , فإن حدثت الاستجابة لهذا الكلام المثير دب الخلاف وبدأ النزاع , وتحول السلام إلى خصام , وصحب الخصام بالعداء , وإلحاق الأذى بالمتخاصمين .
ولكن الإسلام قدر مثل هذه الحالات من الضعف البشري فأعطى توجيهاته لضبط النفس عند وجود هذه المثيرات , وخاصة إذا كان هناك تجمع من الناس كبير , وليس هناك تجمع أكبر من تجمع الحجاج .

فإذا كان الحجاج جميعا على مستوى إسلامهم في معرفة حق المسلم على أخيه من الكلمة الطيبة التي قال فيها ربنا جل جلاله وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِغُ بَيْنَهُمْ وقال جل شأنه : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا .
وقال فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :الكلمة الطيبة صدقة , وإذا أعطوا من أنفسهم الابتسامة الحلوة , وطلاقة الوجه الذي جعله الإسلام بين المسلمين حيث يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق رواه مسلم وإذا التزموا بخلق الإيثار الذي مدح به أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى : وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ .
إذا كانوا كذلك فأفسحوا لبعضهم عند الزحام , وتسابقوا في خدمات بعضهم من طعام وشراب , ومن دلالة على الطريق , ومن حمل الضعيف وتيسير الراحة , وغير ذلك من أعمال كان الحال على ما يحب ربنا ويرضى .

وكيف لا يكون هذا حال الحجاج وما خرجوا من ديارهم إلا طلبا لمرضاة ربهم ؟ وكيف لا يكون وقد بذلوا من أنفسهم وأموالهم لإتمام مناسكهم على أحسن الوجوه في الأداء ؟ . وكيف لا ؟ وقد جمعهم الله بإخوانهم من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ؟ وكيف لا يكون ذلك وقد تطهروا ظاهرا وباطنا ؟ .

أيها الحجاج الكرام : إن الشيطان يغيظه أن يرى أثر نعمة الإسلام جلية في تعامل المسلمين مع بعضهم , ويغيظه ما يرى من آثار الأخوة والمحبة فينفخ في أصحاب النفوس الضعيفة ليصيروا مصدر الكلمة الخبيثة المفرقة وليصيروا مصدر الأفعال التي توغر صدور الآخرين فإذا حدث ذلك واستجاب له بعض الناس فهل يليق بالحجاج أن يقعوا فريسة لمثل هذه الأفعال الشيطانية ؟
إن الحج تلبية واستسلام واستجابة كاملة لأمر الله ورسوله في كل الأحوال وبخاصة للمحافظة على صفاء المناسك والشعائر وقد أمرنا الله تعالى بضبط النفس وعدم الاستجابة لحبائل الشيطان .
فإن استثير الإنسان فعليه بضبط النفس وكظم الغيظ , ولا ينبغي أن يظل كاظما بل عليه أن يتخلص تماما من هذا الغيظ بالعفو عن الناس حتى يتفرغ لعبادة ربه في صفاء نفسي فيمدح الله من يكون متحليا بهذا الخلق فيقول : وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
ويقول تعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
وقال جل شأنه فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ وقال : وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
فهل الحاج الذي خرج لمغفرة الله ورضوانه لا يحب أن يغفر له ؟
إن سبيل هذا أن يعفو وأن يصفح عن إخوانه , لأن كل ابن آدم خطاء , وهذا الصفح وهذا العفو له دلالته وله أثره .

فأما دلالته فإنه يدل على أن هذا الإنسان قوي النفس قال تعالى : وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه : ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب [/url] متفق عليه

وأما آثاره فإن هذا الكظم للغيظ وهذا الصفح الجميل يذهب آثار الغضب ويطفئ ثورة الغاضب , ويعود إلى رشده , ويندم على غضبه ويوطد العلاقة بين الناس فيصير الناس أصدقاء بعد عداوة
قال تعالى : وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ .
وعلى هذا الخلق أيها الحجاج الكرام كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى . رواه مسلم

ويحكي أنس بن مالك رضي الله عنه موقفا يدل على كيفية ضبط النفس إن تصرف حاج مع إخوانه تصرفا يغيظهم وأرادوا أن يقتدوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليحافظوا على سلامة حجهم .
يقول أنس : كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جبذة شديدة فنظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء . متفق عليه

أرأيتم أيها الحجاج الكرام كيف قابل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الفعلة الشديدة بابتسامته الحلوة التي تعلم الرجل كيف يكون رقيقا .

إن على الحجاج أن يلتزموا آداب الإسلام في السكينة , والهدوء والحركة الهنية اللينة في طوافهم وفي سعيهم وفي مشيهم في الطرقات وفي رميهم للجمرات , وليحذروا أن يضيعوا ثواب أعمالهم بإيذاء إخوانهم بكلمات نابية , أو بنظرات غاضبة أو بدفع شديد يؤذي الضعفاء , أو بأدنى أسباب الأذى .
فإن حدث من أحدهم شيء من هذا فينبغي أن نذهب أثره بالحلم والرفق والصفح الجميل حتى لا يبقى للغضب أثر بيننا .
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه رواه مسلم
وقال - صلى الله عليه وسلم - : إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه رواه مسلم
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأشبح عبد القيس : إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة رواه مسلم

اللهم اغننا بالعلم وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجملنا بالعافية .

» آثار التدين بالإسلام في حياة المسلم
» الحج
» الحج
» الحج في الاسلام