عن مولانا علي (عليه السلام): «عوّد أُذنكَ حُسْنَ الاستماع ولا تصغ إلاّ إلى ما يزيد في صلاحك استماعه...»(1). و«من أحسن الاستماع تعجّل الانتفاع»(2). وسئل أحد أنجح رجال الإدارة عن أهم قدرة يمتلكها رجل الإدارة الناجح فقال: عليه أن يتقن الإصغاء، وأضاف بأنه يتمنى أن يؤسس مدرسة يسميها مدرسة الإصغاء الفعّال ليدخلها كل من يريد أن يتولى عملاً يتطلّب منه أن يدير مجموعة من الناس(3). ويرى البعض أيضاً أنَّ أهم قدرة يتطلبها حلّ الصراعات بمختلف أنواعها هي الإصغاء(4). إلاّ إننا قد لا نبالغ إذا قلنا أن هذه القدرة هي من أكثر القدرات إهمالاً عند الناس وخصوصاً عندما يقعون في خلافات مع الآخرين.. فإننا في الغالب نجد أن أطراف النزاع يحبّون أن يتحدّثوا من الزاوية التي تهمّهم ويشكون ظلامتهم ويثيرون الجوانب التي يمكن أن تصبّ في كسب الأطراف الأخرى إلى جهتهم.. وقليل منهم ذلك الذي يبحث عن الاستماع إلى ما يقوله الآخر بالضبط وماذا يريد...؟ إن الكثير منّا ينسى أن الحوار يبتني على جهتين: إبداء الكلام والاستماع إليه.. ولا يتم الحوار إلاّ بهما معاً.. فإن الكلام وحده لا يجدينا نفعاً ولا يوصلنا إلى الكثير.. ومن الصعب أن يجعل الآخرين يقتنعون بصحة آراءنا.. بل لابد من كلام واستماع أيضاً.. أن تقول ما لديك وتسمع ما عليك.. بل وربما تضيع كثير من المنافع التي نجنيها من الاستماع إلى الآخرين إذا أهملنا الإصغاء. ذكر أفلاطون منذ قديم الأيام ثلاثة أسباب رئيسية مسؤولة عن إعاقة التفاهم بين الناس وهي(5): 1) الإصرار على إثبات صواب وجهة نظرهم مهما كان الثمن. 2) تغيير موضوع الحديث. 3) عدم القدرة على الاستماع. وإن التجارب أثبتت أن القدرة على الاستماع أداة رئيسية للوصول إلى تفاهم مثمر وخاصة في مراحل النزاع... وفي الواقع أنها تلعب دوراً كبيراً في تخفيف الميول العدوانية عند الأطراف في لحظات التوتر والانفعال.. إن بعض من لا يستمع إلى الآخرين.. يعاني من أزمات كثيرة وخسائر كبيرة في النتائج لأن من يستمع بانتباه إلى محدِّثه محاولاً فهمه وفهم حاجاته سيكون أبعد من الخطأ.. في التقييم والإنصاف.. إن البعض في حالة التوتر يتصوّر أنه الوحيد على الحق والآخرين على باطل فيجعلهم يمارسون نمطاً من السيطرة على الآخرين وإفحامهم على حساب الحقيقة وهذا أمر مرفوض عندنا جميعاً. إن الكثير من الوسطاء المتخصصين في حل الخلافات وإدارة الأزمات يؤكدون على فن الاستماع.. ويعدونه طريقاً فعّالاً وأساسياً يسهّل على الناس تحديد مصالحهم وأهدافهم والتعبير عن مشاكلهم بوضوح وهدوء.. لأنه في الغالب يحمينا من الوقوع في شراك الأحكام المسبقة والأفكار المبيّتة والإنفعالات الحارّة... إذن من أجل أن يشعر الطرف الآخر في الحوار بأنه قد نال ما يرضيه من الاحترام والتقدير ينبغي أن تشعره أنك تستمع إليه وتحاول أن تفهم ما يريد وتقدّر إحساسه واهتمامه بذلك.. وهذا أمر يتطلّب منك أن تراعي عدّة أمور من أهمها: 1) أن تمنحه الوقت الكافي والفرصة السانحة للتعبير عن نفسه وطموحاتها وعن مشكلاته وهمومه دون أن تقاطعه أو تهبّ في وجهه في كل صغيرة وكبيرة. 2) أن تضبط نفسك كثيراً لكي لا تتسرع في طرح رأيك وإبداء وجهة نظرك قبل أن تستمع إليه بشكل جيد، إن التأني في التعبير في إبداء الرأي يدل على احترامك لنفسك ولرأيك وللآخرين. فإن الصبر وضبط النفس يزيد في أواصر الثقة ويجعلك جديراً بالاحترام كشخص وكصاحب رأي.. وهو يتضمّن دعوة واضحة وصريحة للتفاهم والتعاون البنّاء. 3) إن ضبط النفس ليس فقط يفرض الاتفاق على الخلاف بل هو فرصة ثمينة لنا لمعرفة الكثير من المعلومات المهمة عن الطرف الآخر كما يقدح في ذهننا العديد من الأفكار التي قد تساهم في بلورة الرؤية أكثر وتنضيج الحل. كما يعطينا فرصة سانحة لأن لا نتصرف بتأثير العواطف والانفعالات في حين نفقد هذه الفرصة الثمينة إذا صار اهتمامنا بأن نتحدث بكلامنا ونصرف الوقت في كلامنا نحن... إذن علينا أن نعرف.. أننا عندما نركّز انتباهنا لما يقوله الطرف الآخر ونحاول فهمه فهماً جيداً فإننا سنملك مفاتيح الحل ومفاتيح الإدارة بشكل فعّال.. ونكون أقدر على سد أبواب الخلاف أو ممارسة الضغوط عليه لإقناعه أو لإثبات أن الحق كلّه أو بعضه معنا.. فإذا أردنا أن نهتم بتواصل مثمر وتعاون بنّاء مع الآخرين فلنحاول قدر إمكاننا أن نركّز على كلامهم وأن نكون مستمعين قبل أن نكون متكلمين... وأن لا نقاطع حديث صاحبنا ولا نهبّ في وجهه.. فإن الإصغاء مثل الكلام وسيلة ناجحة لاستيعاب الآخرين والوصول إليهم.. إن بعض الناس يُدخل نفسه في مطبّات من موقع ضعف في حين كان بإمكانه أن يدخلها من موقع قوة لو صبر قليلاً.. إن من ينشر آراءه بمبادرات سريعة يكون قد هدر أفكاره -في الغالب- أو أوقع نفسه في أخطاء.. لا يكفي الاعتذار أو التراجع لإصلاحها.. فإن من يصغي أولاً يكون -في الغالب- في موقع أفضل في التأثير والبلورة من ذلك الذي يتكلم أولاً ثم يصغي.. ولا يخفى عليك أن الإصغاء.. يعني الصمت الهادف.. الذي يقرنه التأمل والتفكير وهو من أبرز سمات الأنبياء والأولياء وغيرهم من أصحاب الشخصيات القويّة. يقول مولانا الرضا (عليه السلام): «إن الصمت باب من أبواب الحكمة إن الصمت يكسب المحبة أنه دليل على كل خير»(6). ويقول مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): «بكثرة الصمت تكون الهيبة»(7). ويقول (عليه السلام): «الصمت يكسبك الوقار ويكفيك مُؤونَة الإعتذار»(. و«الصمت روضة الفكر»(9). و«إلزم الصمت يستنير فكرك»(10). و«أكثر صمتك يتوفر فكرك ويستنير قلبك ويسلم الناس من يديك». ويقول الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): «إذا رأيتم المؤمن صموتاً فادنوا منه فإنه يلقي الحكمة»(11). ويقول الكاظم (عليه السلام): «دليل العاقل التفكر ودليل التفكر الصمت»(12). إذن الصمت والإصغاء والاستماع فضيلة.. ومن أسمى الفضائل إذا تضمن التدبر والتفكير في معالجة الأمور والأخذ بأحسنها. ويمكنك أن تجرّب نفسك وأنت تحضر الاجتماعات أو تتعامل مع الناس في إجراء اتفاق أو حل مشكلة أو رفع خصومة أو إصلاح أو تنضيج رؤية أن لا تبدأ أولاً بنشر آراءك والتعجّل فيها.. بل تأنَّ قليلاً وتدبّر حتى تستوعب الموضوع جيداً وتتناوله بالنظر والتفكير من جوانب عدّة.. ثم ابدأ بالدخول في الموضوع بهدوء ورويّة فستجد أنك قلت الصواب أو بعضه وحقّقت الكثير مما لم تكن تقدر على تحقيقه فيما لو تعجّلت أو تناولت الموضوع بلا دراسة كافية.. هذا ويبقى السؤال الذي قد يقفز إلى أذهان البعض: ما هي وسائل الاستماع الحسن أو ما هي مهارات الاستماع الفعّال والإصغاء المثمر؟ هذا ما سنتعرض إليه في العدد القادم إنشاء الله تعالى.. |